العودة إلي الوراء هي أحدي الهوايات التي نمت عندي علي مر السنين، أرجع إلي
ماضيّ لأعرف من أنا الآن. تنحتنا سنواتنا
الأولي بأحداثها و أشخاصها في أشكال يصعب علينا تغيرها، ننمو لنصير محض أطفال كبار
الحجم في عالم مرعب الأبعاد.عند العودة يستوقفني دائماً واحد من شخصيات الطفولة
أجده محورياً في تكويني و عندي من الأسباب ما يكفي ليجعلني اظن إني ما كنت سأصبح
أنا لولا أن تقاطعت طرقنا في الحياة، هذا الشخص هو علي.
الآن سأفسح المجال لصوت ذاكرتي ليروي هو حكايته.
الآن سأفسح المجال لصوت ذاكرتي ليروي هو حكايته.
علي لا يمتلك وجهاً
طبيعياً. هنالك ندوب حمراء منتشرة علي صفحة وجهه اليمني تتخذ أشكال عشوائية و تمتد
حتي جبهته مغطية إياها كلها و تصل لأطراف ذقنه مارة بشفتيه عند الحواف. ليست هذه
الندوب كتلك التي تلون الجلد بخط أحمر قاني عند الوقوع و تتقشر بعد فترة، ندوب علي
مختلطة بوجهه او لنقل أن وجه علي هو ندوبه. هذه الندوب ليست ذات سطح مستوٍ فبعضها
أعلي من الآخر كما أنها ليست علي درجة واحدة من اللون الأحمر و دائماً ما تعطي
إيحاء الأرض الخشنة. عيناه زرقاواتان بهما بريق لا يغادرهما و شعره أسود كأشد ما
يكون السواد ناعم ينساب علي جبهته و يغطي جزء منها. كان متوسط الطول نحيف بعض
الشيء.
طالما حيرتني ندوبه هذه
فأنا لم يكن عندي مثلها لأعرف سبب تكونها و لم يسبق لي أيضاً معرفة شخص آخر
يمتلكها. أمي كانت تزيد من حيرتي بإطلاقها اسم غريب عليها هو حروق. جعلني هذا
الاسم اتسائل: يمكن لورقة أن تحترق أو لطعام أن يحترق لكن كيف يمكن لإنسان أن
يحترق؟ّ سرعان ما تسرب هذا الاسم الغريب من ذاكرتي لأني لم أستوعبه فيثبت فيها.
مع هذا، فلم يكن السبب
وراء هذه الندوب أكثر ما شغلني، بل كان سؤال: هل لعلي ندوب؟
لعلي صوت عميق يشبه أصوات
الكبار به شيء غامض. كل نغمة من صوته تحمل في طياتها صيغة الأمر و إن لم تكن
كلماته نفسها مرفقة به. لهذا، فعندما يدق جرس الفسحة و ننزل جميعاً لفناء المدرسة
ثم يتجمع حوله أصدقائه الذين يشكلون كل صبيان الفصل يتشاورون فيم سيلعبون و يخرج صوته هو قائلاً
"لنلعب الكرة" أو "لنلعب الغميضة" أو "لنتسابق" تجد
باقي الأصوات قد صمتت و معها إقتراحاتها و يتجمع أصحابها حوله لينظم كيف ستسير
اللعبة. في حالة اللعب التي تتطلب الإنقسام لفيريقين، يرغب الكل في أن يكون في
الفريق الذي يقوده علي-فعلي دائماً القائد-و تفادياً لحدوث المشاجرات يبدل علي
الفريق الذي سيلعب فيه يومياً فإن لعب في يوم في الفريق الأحمر يذهب الذي يليه
للفريف الأزرق و هكذا. في غير هذا النوع من الألعاب يكن دائماً هو الحكم الذي يحدد
كل شيء و الذي لا يعترض أحد علي قراراته.أما
في غير اوقات الفسحة عندما نكون في الفصل فمقعد علي هو مركز للتحركات
الخفية و المقالب التي يدبرها الصبية للمدرسين. تستطيع دائماً أن تسمع صوت
الهمهمات الخافتة تنطلق قوية من مقعدة و تنتقل من فتي لآخر حاملة الخطة التي
سيدبرونها لإزعاج هذا المدرس أو ذاك. يحدث هذا في الفترة التي يدير فيعا المدرس
ظهره لهم ليكتب علي السبورة درس اليوم فإن حدث و اشتبه بوجود شيء ما يجري خلفه
يلتفت سريعاً لكن ليس أسرع من قوة ملاحظة علي الذي يغير هيئته في ثانية و ترتسم
علي وجههه علامات الإجتهاد و يسرع بقية أصدقائه في تقليده ليجد المدرس في النهاية
مجموعة من الطلاب المجدين ينقلون ما يكتب. يلتفت مرة أخري و قد انتقل الشك من
الطلاب إلي أذنيه و هم في ذلك يجتهدون لكتم ضحكاتهم. بعد أن يحدث المقلب و لجهل
المدرس بمدبره و معرفته أن معظم الطلاب متورطين فإنه يلقي بعقوبات عشوائية علي
طلاب عشوائيين لم يكن منهم يوماً علي، فالمدرسين، كالتلاميذ، يعشقونه.
يهيء لي في بعض الأحيان أن في علي شيء كالمغناطيس يجذب كل من يراه و يلصقه به، و لذا فأنت لاتراه أبداً وحيداً، بل لايمكنك أن تتخيله وحيداً. يقبع دائماً في مركز أي مجموعة يقف فيها، تراه مستقيماً موجهاً جسده ووجهه للأمام بينما الآخرون يلتفون حوله بوجوههم و أجسادهم. هو أيضاً مركز لعواطف المجموعة فأي شيء يشعر به ينتقل منه إليهم، ضحكته تضحكهم و غضبه يغضبهم و اشتداد بريق عيناه عندما تخطر له فكرة لمقلب ينعكس في عيونهم جميعاً و صمته عندما يفكر ينقلب لهدوء الجماعة كلها. إن كان لعلي ندوب لكانت ندوبه تلك ستجعله مختلفاً و أنت إن كنت مختلفاً يستبعدك الجميع. أعرف هذا لأنني مختلف.
أتذكر بشكل ضبابي أشياء بعيدة عن نفسي و أنا في الرابعة من عمري أو نحو هذا. بدأت حينها أمي في شراء اللعب لي. أتذكر السيارات الكبيرة منها و الصغيرة التي كانت تحضرها، تلك التي كانت تتحرك بالدفع و التي كانت تدار عن طريق جهاز التحكم عن بعد. اتذكر أيضاً الألعاب التي كانت تأخذ شكل بشر تضغط علي زر في ظهرها لتنطلق بكلمات محفوظة داخلها لا تتغير، و هنالك أخري شبيهة بها بدلاً من النطق بكلمات كانت تغني. اتذكر بجانب هذا تلك الألعاب التي تأخذ شكل حيوانات لها ملمس ناعم و هذه لم أكن أعرف ماذا أصنع بها. أتذكر عن هذا كله مشاهد صغيرة. مشهد لنفسي أركض مسرعاً علي أمي عندما أعرف أن معها لعبة جديدة، مشهد آخر و أنا أتأمل اللعبة بعد أن فُتحت مذهولاً بألوانها البراقة مشهد ثالث و أنا ألعب بها لساعات طويلة و مشهد أخيرآخر اليوم لنفسي و أنا ألقيها بعيداً بعد أن مللتها و راحت ألوانها في البهتان. أخذت هذه المشاهد الأربعة تتكرر مع كل لعبة تشتريها أمي حتي تكونت لدي كومة منها في جانب من جوانب غرفتي. توقفت أمي تماماً عن شرائها. لم أفتقدها.
بعد هذا بفترة ليست طويلة، تعلمت القراءة. أستبدلت أمي شراء اللعب بشراء القصص و هذه أيضاً أتذكر عنها بضعة مشاهد. مشهد لنفسي أركض مسرعاً علي أمي عندما أعرف أن معها قصة جديدة، مشهد آخر و أنا أفتح القصة متلهفاً لأعرف علام تحتوي مشهد ثالث و أنا اقرأها لا أبرحها و لا حتي لآكل حتي أنتهي منها مشهد رابع و أنا أقف علي سريري و أضعها علي رف عال بإحترام بعد أن أنتهيت منها ثم أجلس بعدها علي كرسيّ أعيدها مرة تلو الأخري في رأسي. تكررت هذه المشاهد الأربعة مع كل قصة كانت تحضرها أمي لي حتي صارت تشتري لي قصة أو أكثر كل يوم.
استحوذت هذه القصص علي وقتي و عقلي إستحواذاً تاماً. كانت تدخلني معها لعوالمها النائية و تأخذني بعيداً عن سريري و دولابي و أرففي و غرفتي و بيتي و أبي و أمي و الأشياء كلها و الناس كلهم و تبقيني محتجزاً هنالك دون رغبة مني في الهرب. مع الوقت صار هذا العالم النائي مستقل حتي عن القصص نفسها التي أصبحت بعدها مجرد تذكرة الدخول، ثم، عند مرحلة ما، وجدت نفسي أستطيع الدخول لعالمي هذا وقتما شئت حتي دون هذه التذكرة التي تحولت مهمتها لتصبح هي التفاصيل التي أزود بها حياتي الأخري. أقول حياتي الأخري لأنها فعلاً صارت كذلك، حياة يعيش فيها جزء مني جزء من الوقت أكبر من الجزء الذي يعيش في عالم سريري و دولابي و غرفتي وبيتي و أبي و أمي جزء آخر من الوقت.
يهيء لي في بعض الأحيان أن في علي شيء كالمغناطيس يجذب كل من يراه و يلصقه به، و لذا فأنت لاتراه أبداً وحيداً، بل لايمكنك أن تتخيله وحيداً. يقبع دائماً في مركز أي مجموعة يقف فيها، تراه مستقيماً موجهاً جسده ووجهه للأمام بينما الآخرون يلتفون حوله بوجوههم و أجسادهم. هو أيضاً مركز لعواطف المجموعة فأي شيء يشعر به ينتقل منه إليهم، ضحكته تضحكهم و غضبه يغضبهم و اشتداد بريق عيناه عندما تخطر له فكرة لمقلب ينعكس في عيونهم جميعاً و صمته عندما يفكر ينقلب لهدوء الجماعة كلها. إن كان لعلي ندوب لكانت ندوبه تلك ستجعله مختلفاً و أنت إن كنت مختلفاً يستبعدك الجميع. أعرف هذا لأنني مختلف.
أتذكر بشكل ضبابي أشياء بعيدة عن نفسي و أنا في الرابعة من عمري أو نحو هذا. بدأت حينها أمي في شراء اللعب لي. أتذكر السيارات الكبيرة منها و الصغيرة التي كانت تحضرها، تلك التي كانت تتحرك بالدفع و التي كانت تدار عن طريق جهاز التحكم عن بعد. اتذكر أيضاً الألعاب التي كانت تأخذ شكل بشر تضغط علي زر في ظهرها لتنطلق بكلمات محفوظة داخلها لا تتغير، و هنالك أخري شبيهة بها بدلاً من النطق بكلمات كانت تغني. اتذكر بجانب هذا تلك الألعاب التي تأخذ شكل حيوانات لها ملمس ناعم و هذه لم أكن أعرف ماذا أصنع بها. أتذكر عن هذا كله مشاهد صغيرة. مشهد لنفسي أركض مسرعاً علي أمي عندما أعرف أن معها لعبة جديدة، مشهد آخر و أنا أتأمل اللعبة بعد أن فُتحت مذهولاً بألوانها البراقة مشهد ثالث و أنا ألعب بها لساعات طويلة و مشهد أخيرآخر اليوم لنفسي و أنا ألقيها بعيداً بعد أن مللتها و راحت ألوانها في البهتان. أخذت هذه المشاهد الأربعة تتكرر مع كل لعبة تشتريها أمي حتي تكونت لدي كومة منها في جانب من جوانب غرفتي. توقفت أمي تماماً عن شرائها. لم أفتقدها.
بعد هذا بفترة ليست طويلة، تعلمت القراءة. أستبدلت أمي شراء اللعب بشراء القصص و هذه أيضاً أتذكر عنها بضعة مشاهد. مشهد لنفسي أركض مسرعاً علي أمي عندما أعرف أن معها قصة جديدة، مشهد آخر و أنا أفتح القصة متلهفاً لأعرف علام تحتوي مشهد ثالث و أنا اقرأها لا أبرحها و لا حتي لآكل حتي أنتهي منها مشهد رابع و أنا أقف علي سريري و أضعها علي رف عال بإحترام بعد أن أنتهيت منها ثم أجلس بعدها علي كرسيّ أعيدها مرة تلو الأخري في رأسي. تكررت هذه المشاهد الأربعة مع كل قصة كانت تحضرها أمي لي حتي صارت تشتري لي قصة أو أكثر كل يوم.
استحوذت هذه القصص علي وقتي و عقلي إستحواذاً تاماً. كانت تدخلني معها لعوالمها النائية و تأخذني بعيداً عن سريري و دولابي و أرففي و غرفتي و بيتي و أبي و أمي و الأشياء كلها و الناس كلهم و تبقيني محتجزاً هنالك دون رغبة مني في الهرب. مع الوقت صار هذا العالم النائي مستقل حتي عن القصص نفسها التي أصبحت بعدها مجرد تذكرة الدخول، ثم، عند مرحلة ما، وجدت نفسي أستطيع الدخول لعالمي هذا وقتما شئت حتي دون هذه التذكرة التي تحولت مهمتها لتصبح هي التفاصيل التي أزود بها حياتي الأخري. أقول حياتي الأخري لأنها فعلاً صارت كذلك، حياة يعيش فيها جزء مني جزء من الوقت أكبر من الجزء الذي يعيش في عالم سريري و دولابي و غرفتي وبيتي و أبي و أمي جزء آخر من الوقت.
في إحدي حصص الرياضيات عرفت اسم ما كنت فيه. كتبت المدرسة
أعلي السبورة كلمة "القسمة" ثم رسمت رغيف خبز قسمته لأقسام أربعة و قالت
أن كل قسم يمثل ربع الرغيف و أن أربعتها مجتمعة تكون الرغيف بأكمله. عرفت حينها
أني كرغيف الخبز الذي رسمته المدرسة، منقسم، و أن ثلاثة أرباعي تعيش في حياتي
الأخري وحيدة و الربع المتبقي وحده هو الذي يعيش هنا.
جعلني عالمي الآخر
مختلفاً عن الجميع. كنت كالفتيان الذين جاءوا من بلد غريب للمدرسة في أول يوم، يتكلمون بلكنة أخري و يتصرفون
بطريقة مختلفة و بعد فترة من الوقت قد تطول أو تقصر، يتقنون اللكنة الشائعة و
التصرفات المعتادة حتي يصبحوا كالجميع. كنت أنا فتي غريب أتي من حياة مختلفة أتكلم
كالكل و لا أستطيع التواصل مع أحد.
كانت حياتي الأخري هي السبب الذي منعني من التواصل مع الجميع فأنا لم أكن أجيد بناء جدران حولها تفصلها عن عالمي الحقيقي. كنت أقضي بها أغلب و قتي و لهذا فتأثيرها علي كان يغمرني كلي. كننت أعيش هناك تجارب محال أن أعيشها في الحقيقة و أكون أشخاص لا يمكنني أبداً أن أكونهم في الواقع. فتح هذا كله الباب علي مصراعيه أمام أفكار غريبة ما كانت لتنتابني لو أني لزمت الحياة التي أتشارك فيها مع الجميع. شغلتني هذة الأفكار كثيراً بها و كانت غالباً ما تأخذ شكل تساؤلات تُطرح في رأسي دون أن يرافقها جواب. مثلاً، في قصص كثيرة قرأتها كان البطل يكتشف في النهاية أن كل ما مر به هو حلم و قد استهوتني هذه القصص حتي اختلقت مثلها في عالمي الآخر جاعلاً من نفسي هذا البطل المذهول الذي يستيقظ و هو في حاجة لكثير من الوقت ليستوعب أن كل ما قد كان لم يحدث أبداً. ظللت أتخيل هذا كثيراً حتي تسائلت في يوم من الأيام: ماذا لو لم يكن أيٍ من هذا الذي أنا فيه يحدث؟ ماذا لو كنت نائماً الآن و حياتي كلها لا تعدو كونها الحلم الذي أراه؟
لم أحّدث أحداً يوماً عن عالمي الآخر أو عن افكاري الغريبة و ما كانت تحمله من تساؤلات. كنت دائماَ أتخيل أني تحرٍ خاص ذو شخصيتين، واحدة يعيش بها أمام الجميع ليست هو و أخري لا يراها أحداً سواه و تلك هي ذاته الحقيقية و لا يمكن لهذا التحري أبداً أن يفصح عن هويته السرية. بيد أني لم أكن بالتحري الجيد، شخصيتي السرية كانت تأثر بشكل كبير علي تلك المعلنة. أنا لم أكن أفصح يوماً عن تلك الأشياء التي أعلم أنها تجعلني غريباً لكنها كانت تتسرب من تلقاء نفسها لهذه الأشياء البسيطة التي ينطق بها الجميع مبددة بساطتها تلك.
عندما كنت أتكلم أو أبدي رأيي في شيء ما، أي شيء، كنت أري نظرات إستغراب في عيون زملائي لا تلبث أن تتحول إلي إستهزاء يترجم نفسه في سخرية منطوقة. تكرر هذا في بضعة مواقف مما جعلهم يستهزءون دون حتي أن أتكلم و يجعلون كل ما أنطق به مثار للسخرية. آذاني هذا كثيراً لدرجة ما كنت أستطيع معها أن ألنزم الصمت وهم يجعلون ضحكاتهم الهازئة كالظل لي. و هذا ما حدث توقفت عن إلتزام الصمت. عندما كان أحدهم يسخر مني كنت أرد عليه بسخرية أسوأ تجعل منه الأضحوكة بدلاً مني. عندما كان يغضب هذا الذي سخر مني و يحاول ضربي كنت أرد لكماته بأقصي منها، الأمر الذي جعلني لحد ما مرهوب الجانب لكنه لم يكن يجعلهم يتوقفون عن إستبعادي. لا يهم، كنت أقول لنفسي، علي الأقل ما عاد أحدهم يجرؤ علي الإستهزاء بي. لكن هذه العبارة ما إن تمر في رأسي حتي يتردد اسم واحد لم أكن أنا أجرؤ علي ردعه مهما فعل بي هذا الأسم هو: علي.
كانت حياتي الأخري هي السبب الذي منعني من التواصل مع الجميع فأنا لم أكن أجيد بناء جدران حولها تفصلها عن عالمي الحقيقي. كنت أقضي بها أغلب و قتي و لهذا فتأثيرها علي كان يغمرني كلي. كننت أعيش هناك تجارب محال أن أعيشها في الحقيقة و أكون أشخاص لا يمكنني أبداً أن أكونهم في الواقع. فتح هذا كله الباب علي مصراعيه أمام أفكار غريبة ما كانت لتنتابني لو أني لزمت الحياة التي أتشارك فيها مع الجميع. شغلتني هذة الأفكار كثيراً بها و كانت غالباً ما تأخذ شكل تساؤلات تُطرح في رأسي دون أن يرافقها جواب. مثلاً، في قصص كثيرة قرأتها كان البطل يكتشف في النهاية أن كل ما مر به هو حلم و قد استهوتني هذه القصص حتي اختلقت مثلها في عالمي الآخر جاعلاً من نفسي هذا البطل المذهول الذي يستيقظ و هو في حاجة لكثير من الوقت ليستوعب أن كل ما قد كان لم يحدث أبداً. ظللت أتخيل هذا كثيراً حتي تسائلت في يوم من الأيام: ماذا لو لم يكن أيٍ من هذا الذي أنا فيه يحدث؟ ماذا لو كنت نائماً الآن و حياتي كلها لا تعدو كونها الحلم الذي أراه؟
لم أحّدث أحداً يوماً عن عالمي الآخر أو عن افكاري الغريبة و ما كانت تحمله من تساؤلات. كنت دائماَ أتخيل أني تحرٍ خاص ذو شخصيتين، واحدة يعيش بها أمام الجميع ليست هو و أخري لا يراها أحداً سواه و تلك هي ذاته الحقيقية و لا يمكن لهذا التحري أبداً أن يفصح عن هويته السرية. بيد أني لم أكن بالتحري الجيد، شخصيتي السرية كانت تأثر بشكل كبير علي تلك المعلنة. أنا لم أكن أفصح يوماً عن تلك الأشياء التي أعلم أنها تجعلني غريباً لكنها كانت تتسرب من تلقاء نفسها لهذه الأشياء البسيطة التي ينطق بها الجميع مبددة بساطتها تلك.
عندما كنت أتكلم أو أبدي رأيي في شيء ما، أي شيء، كنت أري نظرات إستغراب في عيون زملائي لا تلبث أن تتحول إلي إستهزاء يترجم نفسه في سخرية منطوقة. تكرر هذا في بضعة مواقف مما جعلهم يستهزءون دون حتي أن أتكلم و يجعلون كل ما أنطق به مثار للسخرية. آذاني هذا كثيراً لدرجة ما كنت أستطيع معها أن ألنزم الصمت وهم يجعلون ضحكاتهم الهازئة كالظل لي. و هذا ما حدث توقفت عن إلتزام الصمت. عندما كان أحدهم يسخر مني كنت أرد عليه بسخرية أسوأ تجعل منه الأضحوكة بدلاً مني. عندما كان يغضب هذا الذي سخر مني و يحاول ضربي كنت أرد لكماته بأقصي منها، الأمر الذي جعلني لحد ما مرهوب الجانب لكنه لم يكن يجعلهم يتوقفون عن إستبعادي. لا يهم، كنت أقول لنفسي، علي الأقل ما عاد أحدهم يجرؤ علي الإستهزاء بي. لكن هذه العبارة ما إن تمر في رأسي حتي يتردد اسم واحد لم أكن أنا أجرؤ علي ردعه مهما فعل بي هذا الأسم هو: علي.
علي قدر ما أستطيع كنت
أتفادي علي. إن رأيته يمر في طريق اتخذت غيره و إن سمعت صوته يقترب ابتعدت لكن هذا
كله لم يكن ليجعله يكف عني. ببساطة أجده يدنو مني و دون أن أكون قد فعلت له شيئاً
تنهال علي سخرياته لاذعة و تتعالي ضحكات أصدقائه من حولي و في عيونهم شماتة غير
خافية لأن صديقهم-أو قل قائدهم- يفعل ما جعلتهم أنا عاجزين عن فعله. أنظر أمامي
لأجد ما لا يقل بأي حال من الأحوال عن عشرة صبية لو حتي حاولت أن أسخر من علي الذي
يقدسونه أعرف أني سأجد ضرباتهم تحيطني من كل جانب و أنا مهما كان بي من قوة لا
أستطيع أبداً صد عشرة في آن واحد. لا يترك هذا لي من خيار سوي إلتزام الصمت التام
ريثما ينتهي و التظاهر بأني لا أسمع لا سخرياته و لا ضحكاتهم حتي إذا ما رحلوا
ألملم أشلاء كرامتي و أبتعد.
في كل مرة يحدث فيها هذا
المشهد كان سؤال هل لعلي ندوب يبرز في رأسي. أنظر إليه و إلي نفسي، لو كلانا
مختلفان هو بسبب ندوبه و أنا بسبب خيالاتي فكيف يصح أن أقف أنا و هو هذا الموقف
الذي يكون هو فيه محاطاً بالعشرات بينما
أكون أنا أعزل؟ هو محبوب و أنا مستبعد؟ هل ندوب علي خفية لا يراها إلا أنا أم
ماذا؟
ظل الأمر هكذا فترة طويلة
لم يطرأ عليه تغيير، علي يسخر مني و يلزمني عجزي الصمت حتي يقرر هو أنه قد نال
كفايته من الإستهزاء مني ثم يرحل تاركاً إياي و شعوري بالذل و الضعف يغمرني، إلي أن
أتي يوم تغير فيه كل شيء.
دق جرس الحصة الأخيرة. نزل
الجميع إلي الأسفل ليرجعوا لبيوتهم بينما توجهت أنا لمدرسة اللغة العربية لتدريبي
علي القصيدة التي كنت سألقيها في حفلة آخر العام. لا أعرف كم كانت الساعة عندما
انتهينا لكن الوقت و لابد كان قد تأخر فعندما نزلت للفناء كان خالياً تماماً. مشيت
للباب لكن أثناء هذا تعثرت بحجر ووقعت. غطي التراب يدي فذهبت لدورة المياه
لأغسلها. عندما خرجت رأيت علي واقفاً بعيد. أشحت ببصري للناحية الأخري سريعاً لكن
بعد فوات الأوان فكان هو قد رآني. توجه إلي، كانت علي وجهه علامات الضجر و عرفت
أني سأكون تسليته.
قابلني بإبتسامته الساخرة
و هو يقول: "لم تأخرت هكذا؟ ألم تأت ماما لتأخذك بعد؟"
كنت سأفعل ما أنا معتاد علي فعله من إلتزام الصمت عندما فاجأني عدم سماعي لقهقهات تتبع سخريته. عندها، نظرت حولي لأجده وحيداً، أعزل، مثلي تماماً.
كنت سأفعل ما أنا معتاد علي فعله من إلتزام الصمت عندما فاجأني عدم سماعي لقهقهات تتبع سخريته. عندها، نظرت حولي لأجده وحيداً، أعزل، مثلي تماماً.
و حينها أدركت أن اللحظة
قد حانت لأنتقم لنفسي من كل إهانات الماضي. كنت أحس بنشوة الفوز و السيطرة تسري في
عروقي و تطرد ما عداها. أردت أن أخبره أشياء كثيرة. أردت أن أقول له أن ندوبه و إن
خفيت علي الجميع فإني أراها و أعلم أنها لا تجعله يستحق أكثر مما أستحقه أنا من
إستبعاد، أردت أن أخبره أن هذا الإستبعاد يتبعه كالصدي شعور دائم بالضعف لا يستتر
سوي بدفع سخرية أحدهم أو لكمه إن استدعي الأمر لكن ستري هذا دائماً من النحول بحيث
يخرقه هو و يخرق معه كرامتي وقتما شاء. أردت أن أقول له أن محض وجوده يخنقني لأني
أراه محاطاً بالجميع و أراني محاطاً بعزلتي. هل قلت كل هذا؟ بالطبع لا، اختزلت
غضبي كله في كلمة واحدة كنت قد نسيتها لما رأيت فيها من عدم منطقية لكنها و لسبب
ما عاودت ذهني الآن و انطلقت علي لساني.
صحت به:
-اخرس يا محروق.
و أنت طفل تمتلك منطقاُ يختلف عن منطق الكبار قد
تقبل بسببه أشياء خرافية لا يقبلها عقلاً ناضجاً و تستبعد أشياء أخري بمثابة
المسلملت. لا شيء غريب في هذا، لأنك في هذا الزمن الرقيق من عمرك تصوغ منطقك تبعاً
لمعطياتك البسيطة لحد ما و طبقاُ لهواك غالباً و هكذا يصير كل ما تحب حقيقة و كل
ما تكره إدعاء.
أتذكر أني عندما كنت طفلاُ
و اسمت أمي ندوب علي باسم حروق أني نظرت إليها كما لو كانت لا تفهم ما تقول، أتذكر
أيضاً أن هذا كان منطقي: يمكن لورقة أن تحترق أو لطعام أن يحترق لكن كيف يمكن
لإنسان أن يحترق؟
بعدها تأتي فترة ما بين طفولتك و نضجك تبدأ
فيها الحقئق الواقعية في التكشف الواحدة تلو الأخري داحضة معها الكثير من معتقدات
الطفولة. لا يمكنك بعدها أن تحدد أي حقيقة دحضت أي معتقد و لا تترك هذه الفترة
الإنتقالية معها من ذكريات سوي إيحاءات مبهمة بالخروج من عالم ملون للولوج في آخر
أسود قاتم.
لا أتذكر بالضبط أي أشيء
جعلني أتخلي عن معتقدي بأن البشر لا يمكن لهم الإحتراق. أكان هذا عندما كنت بعد
صغيراً و قرأت في مجلة عن عادات الشعوب
الغريبة لأكتشف أن الهنود تطبيقاً لتقليد "الساتي" كانوا يحرقون
الأرملة حال توفي زوجها؟ أم كان عندما تقدمت في السن قليلاً و بدأت أسمع من الكبار
عن قطار الصعيد الذي احترق فيه ما يزيد عن أربعمائة شخص؟ أو يا تري عندما كبرت
أكثر و أكثر و رأيت بعيني صوراً لآثار القنبلة النووية في هيروشيما و نجازاكي؟ كل
ما أعرفه أني كنت طفلاً لا أصدق سوي أن النار تأثيرها يقف عند الأوراق و الطعام ثم
صرت ناضجاً أعرف أن النار لا تحمل قديسة لأي شيء طعام ورقة إنسان مدينة أو بشرية.
حينها تساعد هذه الحقائق
المرء علي فهم كثيراً من الأشياء غير المنطقية بالنسبة له عندما كان طفلاً. عرفت
بسببها أن أمي لم يجانبها الصواب عندما وصفت علي بالمحروق و شرحت لي أيضاً تصرفه
عندما وصفته أنا بهذا.
منذ سنوات طوال عندما قلت لعلي "اخرس يا محروق" شعرت للوهلة الأولي بالسخط علي نفسي لأني في اللحظة التي كنت فيها أريد حقاً أن أنتقم لم يخرج من فيهي سوي كلمة غيرمنطقية. تبع هذا أشياء لم أفهمها حينها. رأيت وجه علي و قد ذابت ابتسامة الإستهزاء فيه و تبدلت بنظرة حزن لم أر مثيلتها يوماً في عينيه جعلته تبدو كشخص مختلف. رأيته يقف مكانه ثابتاُ لا يتحرك خطوة واحدة في أي إتجاه و عيناه الجريحتان مثبتتان علي و رأيت دموعاً صامتة تنهمر منهما. شعرت حينها أن لو أصدقاء علي جميعاً تكالبوا علي و أوسعوني ضرباً لما أحسست بشيء من هذا الألم الذي أحس به الآن. شلني الإرتباك عن الحركة و بقيت مثله ثابتاً مكاني لم أتحرك عندما اشتد بكاؤه و لا عندما أمسك ندوبه المنتشرة علي وجهه بيديه كأنما يريد أن يمزقها لم أتحرك خلال كل هذا و بقيت كالتمثال الإسمنتي لولا أن من عينيّ كانت تنهمر كدموعه.
منذ سنوات طوال عندما قلت لعلي "اخرس يا محروق" شعرت للوهلة الأولي بالسخط علي نفسي لأني في اللحظة التي كنت فيها أريد حقاً أن أنتقم لم يخرج من فيهي سوي كلمة غيرمنطقية. تبع هذا أشياء لم أفهمها حينها. رأيت وجه علي و قد ذابت ابتسامة الإستهزاء فيه و تبدلت بنظرة حزن لم أر مثيلتها يوماً في عينيه جعلته تبدو كشخص مختلف. رأيته يقف مكانه ثابتاُ لا يتحرك خطوة واحدة في أي إتجاه و عيناه الجريحتان مثبتتان علي و رأيت دموعاً صامتة تنهمر منهما. شعرت حينها أن لو أصدقاء علي جميعاً تكالبوا علي و أوسعوني ضرباً لما أحسست بشيء من هذا الألم الذي أحس به الآن. شلني الإرتباك عن الحركة و بقيت مثله ثابتاً مكاني لم أتحرك عندما اشتد بكاؤه و لا عندما أمسك ندوبه المنتشرة علي وجهه بيديه كأنما يريد أن يمزقها لم أتحرك خلال كل هذا و بقيت كالتمثال الإسمنتي لولا أن من عينيّ كانت تنهمر كدموعه.
بهذا
المشهد الحزين انتهت قصتي مع عليّ علي المستوي الفعلي. كنت أتوقع في اليوم التالي
لهذا أشد أنواع العقاب و أقساها، كنت أتخيل كيف سأذهب للمدرسة و أجد أصدقائه الكثر
ينتظروني عند الباب و يوسعوني ضرباً. كنت أتخيل أن أصدقائه هؤلاء ربما استعانوا
بأصدقائهم الآخرين ليزدادوا عدداً و غلظة. كنت أتخيل أن بعد هذا سيأتي المدير
ليفصلني من المرسة و يطلب من المدرسين رؤيتي لا لشيء سوي لتوبيخي علي ما فعلت.لم
أكن أفهم بعد ما فعلت و لم استوعب لم آلمت علي هذه "المحروق" هكذا لكن
مجرد حقيقة أنه تألم و أني كنت السبب في هذا الألم جعلني أحس أني أستحق كل هذه العقوبات. عاقبني
علي فعلاً بأشد أنواع العقاب لكن بطريقة غير تلك التي تخيلتها. ما كان منه عندما
رآني سوي أن أشاح بنظره بعيداً و في عينيه اللتين لم يكن يفارقهما البريق يوماً
خوف و إنطفاء. ظلت هذه النظرة التي لم صار لا يلقاني إلا بها تطاردني حتي الآن
كنبع ذنب عظيم لم يجف أو يفارقني حتي الآن. ظلت معاملته لي هكذا حتي نهاية العام و
في العام التالي لم أجده. سمعت أنه سافر لباريس مع أبويه أو شيء من هذا القبيل و
إلي الآن لم أقابله مجدداً.
علي المستوي النفسي, لا أستطيع أن أجزم متي لهذه القصة أن تنتهي و قد رافقني ما أكتشفت من ورائها إلي الآن.
لفترة ليست بالقصيرة ظل سؤال هل لعلي ندوب يطاردني كطفل و كان هذا المشهد الذي وصفت لتوي خير شاهد أنها موجودة، موجودة بصورة تألمه. ما كان سؤالي هذا سوي تهرب من سؤالي الآخر الذي لم أجد له جواب: إذا كان علي يمتلك ندوب هو مختلف بسببها و أنا عندي خيالاتي التي أنا أيضاً مختلف بسببها فكيف يحبونه و يستبعدوني؟ يحيطونبه و يتركوني وحيداً؟ أحتاجت مني الإجابة علي هذا السؤال لسنين كثيرة أنضج فيها و أري ما كان مستحيل لعينيّ طفل أن تبصرانه.
و أنا صغير كان عندي من الوعي ما يكفي لأن أفهم أن كلينا-أنا و علي-مختلفان. كنت أظن أنه هكذا نحن متساويان مما يحتم كنتيجة منطقية أن تتم معاملتنا بنفس الطريقة لكنني لم أقف قط عند إختلافتنا تلك لأفهم ماهيتها.
كان علي مختلفاً بسبب مجموعة من البقع ذات لون يميل إلي الأحمر و ملمس خشن تعلو صفحة وجهه و تغطيها. كنت أنا مختلفاً بسبب مجموعة من الرؤي و الأحلام و الأفكار تستقر في ذاتي و تشكلها. عرفت علي مر أيامي أن الوجه مهما يميل الناس لإضفاء أهمية كبيرة عليه و حتي لأكثر الناس سطحية غير مهم. عندما نسير في الشارع نكن محض وجوه تقابل وجوه لا يهم ما تخفي ورائها، لا يهم إن كان هذا قبيح أم جميل، فاسد أم نقي، طيب أم شرير، بإختصار يتلخص الإنسان كله في وجهه الذي يصبح المعيار الوحيد للحكم عليه. عندما نتواصل مع شخص آخر بالكلام و يزيد هذا التواصل عمقاً يبدأ الكلام و ما يمثله فعلاً من شخصية صاحبه بالتشويش علي الوجه. حينها يكون الوجه كالغلاف الذي يغطي الهدية، قد يكون جميلاُ و قد يكون قبيحاً لكن صاحب الهدية لا يلبث أن يلقيه بعيداَ. علي، لأنه يعلم بإمتلاكه وجه مشوه، كان يعوض هذا النقص في ذاته بجعلها أشد الذوات جاذبية بدرجة طغت معها علي الإيحاء أو الإنطباع الذي قد يخلفه وجهه. جعل هذا شيئاً سهلاً علي جميع من يعرفونه أن يلقوا بوجهه بعيداً و ينظروا إليه هو. أصبحت حروقه من قلة الأهمية للحد الذي جعلني أشكك في وجودها. علي لم يكن مختلفاً علي الإطلاق، لم تزده هذه الحروق في وجهه سوي رغبة في أن يكون أفضل من الجميع الذين لا يملكون مثلها. في حالتي، الغلاف لا بأس به، لكن عند فضه للنظر فيما كان يخفي يجد الناس شيئاً لا يفهموه، لا يعرفوا إذا كان جيداً ليحبوه أو سيء ليكرهوه فاكتفوا بإستبعاده و إلقاء الهدية نفسها بعيداً. عندما كبرت، اكتشفت أني أنا كنت المشوه الحقيقي، أنا هو صاحب الندوب الخفية التي لم تفارقني حتي الآن.
علي المستوي النفسي, لا أستطيع أن أجزم متي لهذه القصة أن تنتهي و قد رافقني ما أكتشفت من ورائها إلي الآن.
لفترة ليست بالقصيرة ظل سؤال هل لعلي ندوب يطاردني كطفل و كان هذا المشهد الذي وصفت لتوي خير شاهد أنها موجودة، موجودة بصورة تألمه. ما كان سؤالي هذا سوي تهرب من سؤالي الآخر الذي لم أجد له جواب: إذا كان علي يمتلك ندوب هو مختلف بسببها و أنا عندي خيالاتي التي أنا أيضاً مختلف بسببها فكيف يحبونه و يستبعدوني؟ يحيطونبه و يتركوني وحيداً؟ أحتاجت مني الإجابة علي هذا السؤال لسنين كثيرة أنضج فيها و أري ما كان مستحيل لعينيّ طفل أن تبصرانه.
و أنا صغير كان عندي من الوعي ما يكفي لأن أفهم أن كلينا-أنا و علي-مختلفان. كنت أظن أنه هكذا نحن متساويان مما يحتم كنتيجة منطقية أن تتم معاملتنا بنفس الطريقة لكنني لم أقف قط عند إختلافتنا تلك لأفهم ماهيتها.
كان علي مختلفاً بسبب مجموعة من البقع ذات لون يميل إلي الأحمر و ملمس خشن تعلو صفحة وجهه و تغطيها. كنت أنا مختلفاً بسبب مجموعة من الرؤي و الأحلام و الأفكار تستقر في ذاتي و تشكلها. عرفت علي مر أيامي أن الوجه مهما يميل الناس لإضفاء أهمية كبيرة عليه و حتي لأكثر الناس سطحية غير مهم. عندما نسير في الشارع نكن محض وجوه تقابل وجوه لا يهم ما تخفي ورائها، لا يهم إن كان هذا قبيح أم جميل، فاسد أم نقي، طيب أم شرير، بإختصار يتلخص الإنسان كله في وجهه الذي يصبح المعيار الوحيد للحكم عليه. عندما نتواصل مع شخص آخر بالكلام و يزيد هذا التواصل عمقاً يبدأ الكلام و ما يمثله فعلاً من شخصية صاحبه بالتشويش علي الوجه. حينها يكون الوجه كالغلاف الذي يغطي الهدية، قد يكون جميلاُ و قد يكون قبيحاً لكن صاحب الهدية لا يلبث أن يلقيه بعيداَ. علي، لأنه يعلم بإمتلاكه وجه مشوه، كان يعوض هذا النقص في ذاته بجعلها أشد الذوات جاذبية بدرجة طغت معها علي الإيحاء أو الإنطباع الذي قد يخلفه وجهه. جعل هذا شيئاً سهلاً علي جميع من يعرفونه أن يلقوا بوجهه بعيداً و ينظروا إليه هو. أصبحت حروقه من قلة الأهمية للحد الذي جعلني أشكك في وجودها. علي لم يكن مختلفاً علي الإطلاق، لم تزده هذه الحروق في وجهه سوي رغبة في أن يكون أفضل من الجميع الذين لا يملكون مثلها. في حالتي، الغلاف لا بأس به، لكن عند فضه للنظر فيما كان يخفي يجد الناس شيئاً لا يفهموه، لا يعرفوا إذا كان جيداً ليحبوه أو سيء ليكرهوه فاكتفوا بإستبعاده و إلقاء الهدية نفسها بعيداً. عندما كبرت، اكتشفت أني أنا كنت المشوه الحقيقي، أنا هو صاحب الندوب الخفية التي لم تفارقني حتي الآن.